فصل: ومن باب ما يؤمر بوفائه من النذور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب النذر في معصية:

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقال هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليتكلم وليقعد وليستظل وليتم صومه».
قال الشيخ: قد تضمن نذره نوعين من طاعة ومعصية فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منهما طاعة وهو الصوم وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل وذلك لأن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه وليس في شيء منها قربة إلى الله سبحانه، وقد وضعت عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم.
فأما المشي إلى بيت الله فالنذر فيه لازم لأن ذلك من المقدور عليه ولم يزل الناس يحجون مشاة كما يحجون ركبانًا، وقال سبحانه: {يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27].
فأما إذا تجاوز المشي والرحلة إلى أن يبلغ به الحفا والوجا وما أشبه ذلك فإنه خروج إلى المشقة التي تتعب الأبدان وربما أتلفتها فتخرج حينئذ عن أن تكون قربة وتنقلب النذور فيه معصية فلا يلزم الوفاء ولا يجب الكفارة فيه والله أعلم.

.ومن باب ما يؤمر بوفائه من النذور:

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف، قال حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كرده، قالت: «خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون رسول الله فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة للكتاب فسمعت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية، فقال أبي يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان، قال لا، قال فأوف بما نذرت به لله».
قال الشيخ: قولها أبده بصري معناه اتبعه بصري وألزمه إياه لا أقطعه عنه يقال ابد فلان فلانًا بصره وأباده بصره بمعنى واحد.
والطبطبية حكاية وقع الأقدام.
وفيه دليل على أن من نذر طعامًا أو ذبحًا بمكة أو في غيره من البلدان لم يجز أن يجعله لفقراء غير أهل هذا المكان وهذا على مذهب الشافعي وأجازه غيره لغير أهل ذلك المكان.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني قد نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال أوفي بنذرك».
قال الشيخ: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور وأحسن حال أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات ولهذا أبيح ضرب الدف واستحب في النكاح لما فيه من الإشاعة بذكره والخروج به عن معنى السفاح الذي هو استسرار به واستتار عن الناس فيه والله أعلم.
ومما يشبه هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان حين استنشده وقال له «كأنما ينضح به وجوه القوم النبل» وكذلك استنشاده عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهما.

.ومن باب النذر عن الميت:

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه «أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال اقض عنها».
قال الشيخ: في هذا بيان أن النذور التي نذرها الميت وكفارات الأيمان التي لزمته قبل الموت مقضية من ماله كالديون اللازمة له، وهذا على مذهب الشافعي وأصحابه؛ وعند أبي حنيفة لا تقضى إلاّ أن يوصي بها.

.ومن باب من مات وعليه الصيام:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه».
قال الشيخ: قوله صام عنه وليه يحتمل وجهين أحدهما مباشرة فعل الصيام وقد ذهب إليه قوم من أصحاب الحديث.
والوجه الآخر أن يكون معناه الكفارة فعبر بالصوم عنها إذ كانت بدلًا عنه وعلى هذا قول أكثر الفقهاء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك».
قال الشيخ: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالوفاء فيما نذره في الجاهلية فقد دل على تعلق ذمته به.
وفيه دليل على أنه مؤاخذ بموانع الأحكام التي كانت مباديها في حال الكفر فلو حلف في الجاهلية وحنث في الإسلام لزمته الكفارة وهذا على أصل الشافعي ومذهبه، وعند أبي حنيفة لا تلزمه الكفارة بالحنث.
وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفرائض مأمورون بالطاعات.
وفيه دليل على أن الاعتكاف جائز بغير صوم لأنه إنما كان نذر اعتكاف ليلة والليل ليس بمحل للصوم.

.كتاب العتق:

قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو بدر حدثني أبو عتبة حدثني سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم».
قال الشيخ: في هذا حجة لمن رأى بيع المكاتب جائزًا لأنه إذا كان عبدًا فهو مملوك وإذا كان باقيًا على أصل الملك لم يحدث لغيره فيه ملك كان غير ممنوع من بيعه، واحتج من أجاز بيعه بأنه لا خلاف أن أحكامه أحكام المماليك في شهاداته وجناياته والجناية عليه وفي ميراثه وحدوده وسهمه إن حضر القتال. وممن ذهب إلى إجازة بيعه إبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وهو قول مالك بن أنس على نوع من الشرط فيه، وكان الشافعي يقول به في القديم ثم رجع أن بيعه غير جائز وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الأوزاعى يكره بيع المكاتب قبل عجزه للخدمة، وقال لا بأس أن يباع للعتق.
قلت: كل ما أجاز بيعه فإنما أجازه على إثبات الكتابة له فيقوم المشتري مقام الذي كاتبه فيه أن يؤدي إليه عتق.
فأما بيعه على أن يبطل كتابته وهو ماض فيها مؤد ما يجب عليه من نجومه فلا أعلم أحدًا ذهب إليه إلاّ أن يعجز المكاتب عن أداء نجومه فيجوز عندئذ بيعه لأنه قد عاد رقيقًا كما كان قبل الكتابة.
وفي قوله: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» دليل على أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي نجومه بكمالها لم يكن محكومًا بعتقه وإن ترك وفاء لأنه إذا مات وهو عبد لم يصر حرًا بعد الموت ويأخذ المال سيده ويكون أولاده رقيقا له.
وقد روي هذا القول عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل.
واستدل بعضهم في ذلك بأن تلف المبيع قبل القبض يبطل حكم العقد والمكاتب مبيع تلف قبل أن يقبض فيملك نفسه ونزول يد السيد عنه.
وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إذا ترك المكاتب وفاء بما بقي عليه من الكتابة عتق، وإن ترك زيادة كانت لولده الأحرار، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك نحوًا من ذلك.
وفيه دليل على أن ليس للمكاتب أن يكاتب عبده لأنه عبد وأداء الكتابة توجب الحرية والحرية توجب الولاء، وليس المكاتب ممن يثبت له الولاء لأن الولاء بمنزلة النسب، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه، وفي قوله الآخر يجوز له أن يكاتبه لأنه من باب المكاسب وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن نبهان مكاتب لأم سلمة، قال: سمعت أم سلمة تقول: «قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه».
قال الشيخ: وهذا كالدلالة على أنه إذا مات وترك الوفاء بكتابته كان حرًا.
وقد يتأول أيضًا على أنه أراد به الاحتياط في أمره لأنه بعرض أن يعتق في كل ساعة بأن يعجل نجومه إذا كان واجدًا لها والله أعلم.

.ومن باب بيع المكاتب إذا فسخت المكاتبة:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وحدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قالا: حَدَّثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته «أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط شرط الله أحق وأوثق».
قال الشيخ: في خبر بريرة دليل على أن بيع المكاتب جائز وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لعائشة في ابتياعها وهي إنما جاءتها للأداء ولتستعين بها في ذلك، ولا دلالة في الحديث على أنها كانت قد عجزت عن أداء نجومها.
وتأول الخبر من منع من بيع المكاتب على أن بريرة قد رضيت أن تباع وأن بيعها للعتق كان فسخًا للكتابة ولم يكن بيعها بيع مكاتبة.
وزعم بعضهم أنهم إنما باعوا نجوم كتابتها واستدل على ذلك بقول عائشة رضي الله عنها فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، وهذا لا يدل على جواز بيع نجوم الكتابة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن. ونجوم الكتابة غير مقبوضة وهي كالسلم لا يجوز بيعه، وإنما معنى قضاء الكتابة هو الثمن الذي يعطيهم على البيع عوضًا عن الرقبة.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «ابتاعي فأعتقي» فدل أن الأمر قد استقر على البيع الذي هو العقد على الرقبة.
وقوله: «إنما الولاء لمن أعتق» دليل على أنه لا ولاء لغير معتق وإن من أسلم على يدي رجل لم يكن له ولاؤه لأنه غير معتق. وكلمة إنما تعمل في الإيجاب والسلب جميعًا.
وقد توهم بعض الناس أن في قوله: «ابتاعي فأعتقي» خلفًا لما اشترطوه على عائشة ورد الحديث من أجل ذلك، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغرور الإنسان.
أخبرني أبو رجاء الغنوي حدثني أبي عن يحيى بن أكثم أنه كان يقول ذلك في هذا الحديث.
قلت: وليس في الحديث شيء مما يشبه معنى الغرور والخلف وإنما فيه أن القوم كانوا قد رغبوا في بيعها فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لعائشة في إمضائه وكانوا جاهلين بحكم الدين في أن الولاء لا يكون إلاّ لمعتق وطمعوا أن يكون الولاء لهم بلا عتق، فلما عقدوا البيع وزال ملكهم عنها ثبت ملك رقبتها لعائشة فأعتقتها وصار الولاء لها لأن الولاء من حقوق العتق وتوابعه فلما تنازعوه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن الولاء في قضية الشريعة إنما هو لمن أعتق وأن من شرط شرطًا لا يوافق حكم كتاب الله عز وجل فهو باطل.
وقد روى من طريق عروة بن هشام في هذه القصة زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها أبو داود وهي أنه قال اشترطي لهم الولاء، وهذه اللفظة يقال إنها غير محفوظة ولو صحت تأولت على معنى أن لا تبالي بما يقولون ولا تعبئي بقولهم فإن الولاء لا يكون إلاّ لمعتق وليس ذلك على أن يشترطه لهم قولًا ويكون خلفًا لموعود شرط وإنما هو على المعنى الذي ذكرته من أنهم يحلّون، وقولهم ذلك لا يلتفت إليه إذا كان لغوًا من الكلام خلفًا من القول.
وكان المزني يتأوله فيقول قوله: «اشترطي لهم الولاء» معناه اشترطي عليهم الولاء كما قال سبحانه: {أولئك لهم اللعنة} [الرعد: 25] بمعنى عليهم اللعنة.
وقوله: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله» يريد أنها ليست من حكم كتاب الله تعالى وعلى موجب قضاياه ولم يرد أنها ليست في كتاب الله مذكورًا، ولكن الكتاب قد أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واعلم أن سنته بيان له، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق فكان ذلك منصرفًا إلى الكتاب ومضافًا إليه على هذا المعنى والله أعلم.
وقد استدل الشافعي من هذا الحديث على أن بيع الرقبة بشرط العتق جائز وموضع هذا الدليل ليس بالبين في صريح لفظ الحديث وإنما هو مستنبط من حكمه، وذلك أن القوم لا يشترطون الولاء إلا وقد تقدمه شرط العتق فثبت أن هذا الشرط على هذا المعنى في العقد والله أعلم.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم من رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة «ابتاعي وأعتقي» بيان هذا المعنى، وقد روي أيضًا صريحًا من طريق الأسود.
حدثناه إبراهيم بن عبد الرحيم العنبري حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الضبي حدثنا عفان حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود «أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تشتري بريرة تعتقها فاشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الثمن».
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ الحراني حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «وقعت جويرية بنت الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة ملاَحة وذكرت القصة في تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها».
قال الشيخ: قوله ملاحة، يقال جارية مليحة وملاحة وفعالة يجيء في النعوت بمعنى التوكيد، فإذا شدد كان أبلغ في التوكيد كقوله سبحانه: {ومكروا مكرًا كبارًا} [نوح: 22]. وقال الشماخ:
يا ظبية عطلًا حسانة الجيد